الأفكار الاقتصادية عند بعض المفكرين المسلمين خلال العصور الوسطى

وُجدت العديد من المحاولات لبحث المشكلات الاقتصادية خلال القرون الوسطى في مؤلفات العديد من الكتاب المسلمين الذين تعرضوا لموضوعات ذات طابع اجتماعي وتاريخي، ونخص بالذكر أبو يوسف الأنصاري، أحمد بن علي الدجلي، أبو حامد الغزالي، ابن خلدون، المقريزي، وسنركز على بعض أفكار ابن خلدون لأنه تطرق للعديد من المسائل الاقتصادية التي يصعب حصرها، وحاول فصلها عن الاعتبارات الدينية، كما يعد أول من حاول توضيح السلوك الاقتصادي للأفراد والجماعات، كما سنشير إلى أهم الأفكار التي جاء بها المقريزي.

الفكر الاقتصادي عند ابن خلدون (1332-1406م):

ولد أبو زيد عبد الرحمان ابن خلدون (1332-1406 م[1]) في تونس، تقلد العديد من مناصب السياسة والقضاء في تونس والمغرب ومصر، وأهم أعماله "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر"، الذي تعد مقدمته المعروفة اليوم بــ "مقدمة ابن خلدون" هي أول بحث علمي في كيفية دراسة التاريخ على أسس علمية وتحليلية(الببلاوي، 1995، صفحة 24)، وترجع قيمة ابن خلدون إلى أنه مؤسس علم الاجتماع، وقد تطرق للعديد من الأفكار الاقتصادية لارتباطها بدراسته الاجتماعية والتاريخية، ولو لا خلطه للقضايا الاقتصادية بالتاريخ والاجتماع لاعتبر بحق مؤسس علم الاقتصاد الحديث. ويمكن عرض بعض الأفكار الاقتصادية لابن خلدون فيما يلي:

‌أ. أسباب ظهور المجتمع: أرجع ابن خلدون ظهور المجتمع (الدولة) إلى أن الإنسان مدني بطبعه، أي لابد له من الاجتماع والتعاون من أجل الحصول على الرزق وتحسين وسائل المعيشة، إذ لا يمكن توفير الحاجات الأساسية من غذاء وأمن وأدوات بدون تعاون 3[2].

‌ب. أسباب تطور المجتمع:فسر ابن خلدون تطور المجتمع على أساس عاملين هما: تزايد السكان وتقسيم العمل، حيث أن حاجيات الأفراد المعيشية تتزايد وتتنوع بزيادة عدد السكان داخل المجتمع وتوسع العمران، وهو ما يؤدي إلى تقسيم العملبينهم ما يؤدي إلى كثرة أنواع الأعمالوبالتالي زيادة الإنتاجية وزيادة الدخل الفردي وهو ما يؤدي إلى زيادة الطلب على السلع الكمالية فتنمو صناعاتجديدة وبذلك يحدث الازدهار الاقتصاديوتتطور الدولة.

‌ج. نظرية السكان والأسعار: نظر ابن خلدون إلى الزيادة في عدد السكان نظرة إيجابية بعيدة عن التشاؤم، فكثرة السكان تؤدي إلى توسع في العمران وتضاعف الخيرات في الأسواق وهبوط أسعار الضروريات وارتفاع أسعار الكماليات.

‌د. أنواع السلع: قسم ابن خلدون السلع إلى ضرورية مثل الغذاء (وأهمها الحنطة)، وسلع كمالية مثل المراكب، وبين أن الطلب على هذه السلع يتوقف على درجة العمران والتقدم، كما أوضح نسبية هذا التقسيم، فالبلد الكثير العمران يكثر فيه الترف ومن ثم تصبح السلع الكمالية ضرورية بالنسبة له.

‌ه. نظرية القيمة: يميز ابن خلدون بين القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية للسلعة، فالقيمة الاستعمالية مستمدة من الخصائص النافعة للشيء، ويسميها ابن خلدون الرزق أو المعاش، وأما القيمة التبادلية فتستمد من إمكانية إبدال الشيء بشيء آخر مثل النقود، وهذه يسميها ابن خلدون الكسب.

‌و. العمل: أعطى ابن خلدون أهمية بالغة للعمل وحاول جعله نظرية مستقلة بذاتها، واعتبره سببا من أسباب المعاش وهو مصدر كل الثروات وبدونه لا يوجد إنتاج، كما جعله الأساس في تحديد قيم الأشياء من سلع ومنتجات، حيث أوضح أن قيمة الصنائع تكمن في قيمة العمل المبذول في صناعتها، فهو بذلك يرجع القيمة إلى العمل الإنساني بشكل رئيسي. وبذلك يكون ابن خلدون قد سبق أدام سميث ودافيد ريكاردو في وضع نظرية القيمة في العمل.

‌ز. الضريبة والمالية العامة:تعد أفكار ابن خلدون عن المالية العامة من أهم الأفكار وأكثرها صلة بالاقتصاد الحديث، حيث أشار ابن خلدون إلى أنه مع تطور الدولة تزداد حاجتها للمال، ورأى ضرورة تخفيف عبء الضرائب على السكان لكي ينشطوا ويرغبوا أكثر في العمل، وبالتالي يزيد الإنتاج وتزداد ثرواتهم وتكثر الجباية في النهاية.

‌ح. النقود:أوضح ابن خلدون دور النقود باعتبارها وسيلة لتسهيل المبادلات ومقياسا للقيمة، وأكد أيضا على دورها كحافظ للقيمة والذي يعني إمكانية استخدامها أيضا وسيلة للادخار واختزان الثروة. كما أعطى أهمية بالغة للمعدنين الشريفين (يقصد الذهب والفضة)، حيث تجاوز من سبقه من المفكرين الذين رأوا بأن الذهب والفضة يلعبان دور النقود بسبب اتفاق الناس على قيامها بهذا الدور وقبولهم لذلك، إذ يرى هو أن الله عز وجل خلق هذين المعدنين ليكونا مقياسا للقيمة، فالله أراد أن يكون هذان المعدنان نادران ليؤديا وظيفة النقود، بمعنى أن المعدنان يتمتعان بخاصية "الثمينة" بالخلقة وليس بالعادة والعرف.

وبالرغم من الأهمية الكبيرة التي أولاها ابن خلدون للحجرين الشريفين؛ إلا أنه لم يعتبر المعادن الثمينة هي الثروة بحد ذاتها (كما فعل المركنتيليون)، حيث اكتشف أن قوة الدولة وتقدمها العمراني ليس بما تمتلكه من معادن ثمينة بل يكون نتيجة قدرتها الإنتاجية التي تجلب لها الذهب والفضة.

‌ط. دور الدولة في النشاط الاقتصادي:أشار ابن خلدون إلى أن الدولة هي السوق الأعظم وأهم مستهلك فيه، نتيجة إنفاقها الواسع على رفاه الناس وجبايتها منهم للأموال، وأكد على أهمية السلطة ووجود الدولة في المجتمعات، ومع ذلك رأى أنه من غير المرغوب للدولة التدخل بشكل مباشر في النشاط الاقتصادي العادي، لأنه سيكون مرتبطا بظلم الحاكم وجوره، ويقلل الفرص المتاحة للناس ويضر بالدولة في نهاية المطاف، وأن على الدولة متابعة الأمور التي تساعد على متابعة أعمالهم بصورة أكثر كفاءة، ومنعهم من ارتكاب التجاوزات والمظالم، وأوضح دور الدولة في مراقبة الأسعار وجباية الأموال وتنشيط الاقتصاد. وعليه فإن ابن خلدون لا يتصور الدولة دولة "دعه يعمل" ولا دولة الشمولية، إنما دولة تسهر على تطبيق الشريعة وتصلح أداة للتنمية والرفاه.

‌ي. فكرة الريع:من أدق الملاحظات التي أشارإليها ابن خلدون في نفقات الانتاج الزراعي، هو أن بعض الدول إذا ما اضطرت لزراعة أراض غير خصبة لسبب زيادة الطلب على المواد الغذائية، فإن هذه الاراضي تتطلب نفقات إنتاج أكثر من الأراضي الخصبة ونفقات الإنتاج هذه تصبح شيئاً مهماً لأن المنتجين (الزراع) يدخلوها في أثمان المنتجات الزراعية. إن نفقات الإنتاج العالية في الأراضي غير الخصبة تعني بالضرورة أن الأراضي الخصبة تحقق عائداً أعلى وبالتالي تحقق ريعاًأكبر. ولم يقف ابن خلدون عند الريع الناجم عن فرق الخصوبة في أنواع الأراضي المختلفة بل يتعداه إلى الريع الناشئ عن الموقع وعن التطور الاجتماعي، فقد لاحظ ابن خلدون أنه عند وجود دولة محدودة النشاط الاقتصادي فإن ثمن الأراضي والعقارات تكون منخفضة الثمن، ولكن عندما يزداد النشاط الاقتصادي وتقوى الدولة ويزداد عدد السكانترتفع قيمة العقارات نتيجة لذلك العمران،والفرق بين ثمن العقارات في البداية عند رخصها، وقيمتها عندما يزداد العمران ويرتفع ثمنها إنما يتحقق نتيجة لزيادة العقار وبالتالي زيادة ما يعطيه من دخل، فيتولد بذلك ما يسمى اليوم "الريع" وهو ما يؤدي إلى زيادة ثروة فئة الملاك للعقارات.

إن تحليل ابن خلدون بهذا الاسلوب العلمي الرصين، يكون به قد سبق ريكاردو وهنري جورج في نظرية الريع التي تنسب لهما اليوم.

‌ك. العرض والطلب وتحديد الأسعار: أكد ابن خلدون على تأثير العرض والطلب في تحديد الأسعار، وهو ما له دلالة هامة، لأن دور العرض والطلب في تحديد القيمة لم يدرك جيدا حتى أواخر القرن التاسع عشر، الأمر الذي يبين أن ابن خلدون قد سبق عصره. وأوضح ابن خلدون أن الزيادة في الطلب أو النقص في العرض يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، في حين يؤدي النقص في الطلب أو الزيادة في العرض إلى هبوط الأسعار، وذهب إلى أن الأسعار إذا استمرت متدنية جدا فإن الصناع والتجار يتضررون، ويخرجون من الأسواق، وإذا استمر الارتفاع يتضرر المستهلكون، لذلك فإن الأسعار المعتدلة بين هذين المستويين المتطرفين مرغوبة، لأنها تسمح للتجار بمستوى من العائد مقبولا اجتماعيا وبالتالي تؤدي إلى رواج الأسواق بزيادة المبيعات، ومن ثم توليد الدوران والازدهار.وقد بين ابن خلدون أن العوامل المحددة للطلب تتمثل في الدخل وحجم السكان وعاداتهم ونمو المجتمع وازدهاره 2[3].

الفكر الاقتصادي عند المقريزي (1364-1442م):

ولد تلميذ ابن خلدون "تقي الدين أحمد بن علي المقريزي" في مصر، احتل مركزا عاليا بين المؤرخين في مصر، من أهم مؤلفاته "شذور العقود في ذكر النقود" و"إغاثة الأمة بكشف الغمة" واللذان يشملان العديد من الأفكار الاقتصادية الهامة، وقد أعطى أهمية بالغة في فلسفته للنقود (حتى لُقب بأبي النقود)وحلل على أساسها مختلف الظواهر الاقتصادية. ومن بين أهم الأفكار التي جاء بها نذكر ما يلي 1[4]:

‌أ. الأزمات الاقتصادية:يُعتبر المقريزي من أوائل الكتّاب الذين كتبوا في الأزمات، وأول مَن تكلَّم عن أثر السياسة النقدية في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية (التضخم والأسعار)، وأول مَن ربط بين السياسة النقدية والتقلبات الاقتصادية (الأزمات والمجاعات)، حيث اهتم المقريزي بالأزمات الاقتصادية وبخاصة بالأزمة التي مرت بالعالم الإسلامي للفترة (1392 -1404م) وبالأخص في مصر، أين تعرضت للمجاعة الطاحنة، والتي بين أن سببها بالدرجة الأولى يكمن في فساد الحكم وسوء الادارة الاقتصادية وزيادة تكاليف الإنتاج وسوء توزيع الدخل.

‌ب. القيمة في العمل:يعتقد المقريزي أن إشباع الحاجات الاجتماعية في ظروف الإنتاج والتبادل البضائعي، إنما يتحقق فقط بعملية البيع والشراء في السوق على أساس التبادل، الذي يستند إلى كمية متعادلة بين العمل الذي بذل في إنتاج هذه البضاعة وثمنها،بمعنى أن قيمة السلع حسبه تتحدد على أساس العمل المبذول فيها. وهو يؤمن بأن سعي الناس وعملهم في عملية التبادل هذه هو أمر طبيعي موجود في جميع الأمم والمجتمعات.

‌ج. سيرورة الأسعار: بعدما أكد المقريزي على كون العمل هو التعبير الحقيقي عن قيمة البضاعة، أي العمل الذي يبذل في إنتاج هذه السلع، ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث أشار إلى الأسباب التي تؤدي إلى اختلاف الأسعار وارتفاعها أو انخفاضها، وأوضح أن العنصرين الأساسيين المحركين للأسعار هما الوفرة والندرة، حيث كلما زادت ندرة الأشياء ارتفعت أسعارها، وتنخفض هذه الأخيرة مع الوفرة.

‌د. النقود:أعطى المقريزي أهمية كبيرة للنقود، فحدد وظائف النقودالثلاث، وهي ذاتها التي أشار إليها ابن خلدون، فهي معيار تقاس به القيم، ووسيلة للادخار وكذا وسيلة للتبادل والبيع والشراء.

ركز المقريزي في دراسته النقدية على تأثير المجاعة على النقود، مشيرا إلى أن الندرة الاقتصادية تؤدي إلى ارتفاع الأسعار، كما اقترح الابتعاد عن المعادن الرخيصة كنقود،حيث لاحظ تداول هذه المعادن الرخيصة واختفاء المعادن النفيسة من التداولوهو ما كان سبباً في ارتفاع الأسعار، وطالب بالاعتماد على الذهب أو المعادن النفيسة كنقود لأنها تحد من ارتفاع الأسعار،فهذه المعادن نادرة ومكلفة وبالتالي فإن كمية تداولها تحدد تلقائياً من خلال السوق، وليس طبقاً لرغبة الحكام. وهذا يؤكد أن المقريزي كان من أنصار الحرية الاقتصادية والنقدية.

وبالتالي نجد أن الفكر النقدي للمقريزي قد وضع الأساس لكل من قاعدة الذهب وقانون "جريشام" (Gresham) التي جاءت بعده بقرون. فقانون جريشام الذي يقول بأن النقود الرديئة تطرد النقودالجيدة من التداولنجد أن جذوره توجد عند المقريزي، عندما أكد بأن اختفاء العملات الفضية (العملة الجيدة) من التداول تاركة الساحة للعملات النحاسية (الرديئة) كان سبباً في ارتفاع الأسعار.

‌ه. التضخم:بالرغم من أن مصطلح "التضخم" لم يذكر في مؤلفاتالمقريزي حرفيا، إلى أنه تطرق إليه بالتحليل الدقيق مبرزا أسبابه وآثاره وحلوله، حيث فسر التضخم الذي حدث في عصره، بزيادة كمية النقود المتداولة في الاقتصاد الإسلامي،فقد لاحظ أن زيادة كمية النقود مع طاقة إنتاجية محددة تؤدي إلى "التضخم"، وهوما يؤثر على التشغيل ودرجة الإشباع وطريقة توزيع الدخل مما يضر بمصلحة الطبقات الفقيرة والمنتجين الصغار، مما يساعد على ظهور الاحتكارات والتكتلات في الإنتاج والتوزيع.

ومن ضمن الأسباب المهمة التي بينها المقريزي للتضخم عنصر الفســاد المتمثل في رشــوة التجار للحكام، فيُترك هؤلاء الراشون يحتكرون الأســواق ويغلون الأســعار عامة دون رادع، بالإضافة إلى الزيادات السنوية الضرائب المفروضة على المزارعين فتزيد من تكاليف الزرع وأســعار الغلات في الأســواق، كما أن زيادة عرض النقود الرخيصة (الرديئة) من أهم الأسباب في جموح التضخم واستمراره، لذلك هاجم بشــدة النقود الرخيصة، وحاول المقريزي أن يضع حلاً لمشكلة زيادة عرض النقود، فطالب بأن تصك من المعادن النفيسة حتى يمكن تحديد كميتها وتقليص عرضه،واعتقد جازماً أن نظام النقود الذهبية كفيل بحماية الاقتصاد من التضخم.

وبهذا يكون المقريزي قد وضع أول نظرية في التاريخ الاقتصادي والنقدي عندما تعرض لكمية النقود وأثرها على المتغيرات الاقتصادية، واعترف بعدم حيادية النقود على عكس الكلاسيك الذين يرون أن تغير كمية النقود يؤثر فقط في الأسعار لأنهم يعتقدون ثبات حجم المعاملات وسرعة دوران النقود.