الفكر الاقتصادي عند اليونان

قامت الحضارة اليونانية (الإغريق) خلال القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد، حيثكان لها نصيب أوفر في إرساء كثير من المبادئ الاقتصادية التي اشتقت منها الحضارة الغربية فيما بعد كثيرا من أفكارها.وكان النشاط الاقتصادي قائما على الزراعة واستخراج المعادن وتصنيعها وعلى التجارة الخارجية.

عُرف الاقتصاد عند اليونانيين القدماء بأنه علم إدارة شؤون المنزل، نظرا لأن النشاط الاقتصادي في البداية كان عائليا بالدرجة الأولى، ومع تطور الحضارة اليونانية وازدهار التجارة بها، تطورت الحياة الاقتصادية وتعقدت، الأمر الذي كان يستدعي بروز أفكار اقتصادية لحل المشكلات الاقتصادية، وبالرغم من ذلك لم يكن هناك بناء فكاري متكامل لدراسة هذه المشكلات بشكل واضح، ويرجع السبب في أن الحضارة اليونانية قد قامت على الرق، بحيث ترك العمل اليدوي للعبيد مما جعل العمل بصفة عامة محل احتقار المفكرين والفلاسفة، ما أدى إلى تراجع الاهتمام بالإنتاج الذي يعد أحد مقومات الحياة الاقتصادية 1[1].

ويمكن القول أنأهم الأفكار الاقتصادية قد ظهرت بشكل بارز في فكري اثنين من الفلاسفة اليونانيين هما أفلاطون وأرسطو. ومن ثم يمكن اعتبار كل منهما من أهم الرواد الأوائل لعلم الاقتصاد.

الفكر الاقتصادي عند أفلاطون (427-347ق م)

كان الفيلسوف اليوناني أفلاطون ينتمي لأسرة أرستقراطية، وكان من تلامذة الفيلسوف سقراط، اشتهر بكتابه "الجمهورية" الذي تكلم فيه عن الدولة والمدينة الفاضلة. يمكن القول عن الفكر الاقتصادي عنده أنه كان متأثرا بالسياسة والفلسفة والأخلاق. وفيما يلي يتم التعرض لأهم الأفكار الاقتصادية عند أفلاطون:

‌أ. أصل الدولة: يرى أفلاطون أن أساس نشأة الدولة وأصلها قائم على عامل اقتصادي، مفاده أن الفرد لا يستطيع أن يشبع حاجاته بمفرده لأنها متعددة، لذلك يضطر للتجمع والتعامل في مجموعة من الأفراد من أجل أن يتعاونوا لإشباع حاجاتهم المختلفة، ومنه الدافع الأساسي لقيام الدولة هو دافع اقتصادي.

‌ب. تنظيم المدينة والطبقات الاجتماعية:حاول أفلاطون تقديم نموذج لمدينته الفاضلة وهي مدينة صغيرة عدد سكانها قليل لا يتزايد أي ثابت قدر المستطاع، يكون النشاط الاقتصادي فيها محكما ومنظما، وتقوم على تقسيم العمل والتخصص فيهوالمزايا بين طبقات المجتمع، بسبب تفاوت القدرات الجسمية والذهنية للسكان،والعمل على تحقيق العدالة بين المواطنين. وهنا قسم أفلاطون المجتمع إلى ثلاث طبقات أساسية هي 1[1]:

- الطبقة الحكام: ومهمتها الحكم ووضع القوانين والعمل على احترامها، واشترط أن تكون طبقة الحكام من الفلاسفة، مع ضرورة إلغاء الملكية الخاصة والميراث والزواج وتكوين العائلة لهذه الطبقة، حتى تتوافر لهم الرغبة في الاستمرار في أداء الخدمة العامة. بمعنى أن يعيش الحكام معا حياة مشاعية تنعدم فيها الملكية الخاصة والعائلة، والتي حسب أفلاطون قد تصرفهم عن إدارة الحكم.

- طبقةالجنود: ومهمتها الدفاع عن المدينة وتعيش هي الأخرى حياة مشتركة، وليس لديها الحق في الملكية الخاصة وتكوين العائلات.

- طبقة المنتجين:وتشمل العمال والمزارعين والصناع، ومهمتها إشباع الحاجات المادية لسكان المدينة، وهذه الطبقة فقط هي التي لها الحق في الملكية الخاصة والزواج وتكوين العائلات.

‌ج. تقسيم العمل: نادى أفلاطون بضرورة تقسيم العمل، ورأى أنه من الواجب أن يتخصص كل فرد بعمل معين أو مهنة معينة بما يتلاءم مع قدراته الطبيعية، لأن ذلك يساهم في الاستغلال الأمثل للكفاءات والمهارات. إلا أن الباعث من هذا التقسيم للعمل ليس زيادة الإنتاجية بل لترسيخ مبدأ التقسيم الطبقي للمجتمع الذي كان سائدا آنذاك(المعموري، 2012، صفحة 88). ومن هنا يرى أفلاطون أن العبودية هي نتاج تقسيم العمل، أي مستوى التطور الاجتماعي والاقتصادي في فترة زمنية معينة، وأن العبودية أساسية في الحضارة الإنسانية لا يمكن الاستغناء عنها، ومن ناحية أخرى فإنه احتقر المهن اليدوية، باستثناء الزراعة، لارتباطها بطبيعة العبيد، واعتبر العبيد أداة عمل ناطقة واستثناهم من الكائنات البشرية.

‌د. الملكية الخاصة: نادى أفلاطون بإلغاء الملكية الخاصة بالنسبة لطبقة الحكام والجنود (المحاربين)، حيث لا يجب أن يكون هناك ما يشغل هذه الطبقة عن أمور الحكم والحرب،وتعد فكرة الشيوعية (الاشتراكية بالمعنى الحديث) بالنسبة طبقة الحكام والجنود من أهمالأفكار الاقتصادية التي اشتهر بها أفلاطون في مدينته الفاضلة(عمر، 1994، صفحة 24).بينما كان يرىبأهمية وجود الملكية الخاصة بالنسبة للمزارعين والحرفيين والصناع، لأنهم يهدفون من خلال نشاطهم إلى تحقيق الربح والمصلحة الخاصة، بعكس طبقة الحكام التي يجب أن تهدف فقط لتحقيق الصالح العام. أما العبيد بالنسبة له فهم محرومون من جميع الحقوق والملكيات لأنهم حسبه من أدوات الإنتاج.

وبالرغم من إقرار أفلاطون بالملكية الخاصة لطبقة المنتجين فقط؛ إلا أنها ليست حرية مطلقة بلا حدود، فقد نادى بضرورة تدخل الدولة لمنع الثراء الفاحش والفقر المدقع على حد سواء، وجعل هذه الحرية مقيدة.

‌ه. النقود: كان أفلاطون يرى أن للنقود وظيفة مهمة فهي وسيلة للتبادل وتسهيل المعاملات، ونادى بفكرة تسمى في وقتنا الحاضر "النظرية الحكومية لقيمة النقد"، مفادها أن قبول الأفراد للنقود كوسيط للتبادل وكأداة لتسوية المعاملات لا يأتي من قيمة المعادن التي صنعت منها هذه النقود، وإنما يأتي من قبول الناس واتفاقهم على استخدامها كوسيط للمبادلة، وأنه بواسطتها يمكن بيع وشراء مايرغبون به من سلع مختلفة، لذلك اقترح استخدام نوع من النقود له قيمة صورية وليس ذاتية (ليس ذهبا أو فضة)، حتى لا يتم اكتناز النقود والاستفادة من قيمتها الذاتية. ويعد بذلك أفلاطون أول من نادى بأن تكون للنقود قيمة مستلقة عن قيمتها الذاتية كمعدن 1[1].

بالإضافة إلى ذلكميّز أفلاطون بين نوعين من النقود،وهي نقود للتبادل الداخلي (نقود محلية)، ونقود للتبادل الخارجي تحتفظ بها الدولة للأسفار والتحويلات، وأنه يجب على الأفراد الذين يعملون خارج البلاد عند عودتهم، أن يسلموا ما لديهم من عملات أجنبية للدولة ويتحصلوا مقابلها على نقود محلية.

‌و. الفائدة: عارض أفلاطون الربا واستخدام النقود للحصول على الفائدة، لأنه كان يرى أن الهدف من الوجود النقود هو تسهيل التبادل فقط.

‌ز. التجارة والصناعة:نظر أفلاطون إلى الصناعة والتجارة نظرة ازدراء وريبة شأنه في ذلك شأن أكثر المفكرين القدماء الذين قدسوا مهنة الزراعة، ونظروا لباقي المهن نظرة احتقار واعتبروها أنشطة غير طبيعية.

2. الفكر الاقتصادي عند أرسطو (384-322 ق م):

يعد الفيلسوف اليوناني أرسطو (384-322 ق م[2] )من أشهر الفلاسفة على مر التاريخ، كان من تلامذة أفلاطون، تأثر بفلسفته في البداية لكنه انفرد بأفكاره الخاصة لاحقا، وبالرغم من أن كتاباته لم تكن من الناحية الأدبية بجمال مؤلفات أفلاطون إلا أنها كانت أكثر قيمة وواقعية. ففي حين كان أفلاطون يحلم بمدينة فاضلة بناهافي خياله، كرّس أرسطو فكره لفهم العالم والواقع كما هو.

يتشابه الفكر الاقتصادي عند أرسطو مع أفلاطون في أن كلا منهما تأثر بالفلسفة والسياسة والأخلاق، غير أن أرسطو تميز بتحليله لبعض المشكلات والظواهر الاقتصادية، لذلك يعد أول القدماء الذين وضعوا "بذور النظرية الاقتصادية[3]" إلا أنه لم يتمكن من جعل الاقتصاد علما مستقلا بذاته، وقد وردت معظم أفكاره في كتابيه "الأخلاق" و "السياسة". ويمكن التطرق لأهم الأفكار الاقتصادية عند أرسطو فيما يلي:

‌أ. أصل الدولة: كان أرسطو يرى أن أصل الدولة وأساسها لا يرجع للعامل الاقتصادي فقط (كما ذكر أفلاطون)، بل للعامل التاريخي أيضا، إذ إن إشباع الحاجات الاقتصادية والمادية للأفراد والتبادل ليست الدافع الوحيد لقيام الدولة، فالتطور التاريخي الذي عرفه الإنسان وتكوين الأسرة، والعلاقات الاجتماعية المتأصلة في النفس البشرية، أدى إلى تكوّن المجتمع من القرى والمدن وبذلك تنشأ الدولة.

‌ب. المكية الخاصة: أقر أرسطو بالملكية الخاصة وأيدها، وعارض فكرة إلغاء الأسرة وتكوين العائلة، كما انتقد الأفكار الشيوعية التي تدعو إلى المشاعية (التي دعا إليها أفلاطون) نظرا لافتقار الملكية العامة للحافز المادي، ورأى أنه من الممكن تحقيق التوافق بين المصالح الشخصية والمصالح العامة، وأن البواعث الشخصية هي من أقوى الدوافع للعمل، وهي الأساس لتحقيق المصلحة العامة. (وهي الأفكار التي سادت بعد ذلك خصوصا مع آدم سميث في اليد الخفية). وبالرغم من ذلك أكد أرسطو على ضرورة إدخال الاعتبارات الأخلاقية في الملكية الخاصة من أجل تقييدها، فعلى الملاك وميسوري الحال أن يتمتعوا بعامل أخلاقي تجاه الفقراء وغير الملاك، ويقوموا بمساعدتهم 1[1].

‌ج. نظرته للرق (العبودية):لم يعارض أرسطو النظام العبودي كغيره من فلاسفة عصره، حيث اعتبره جزءا لا يتجزأ من تكوين المجتمع اليوناني القديم، وهو نوع من الملكية الخاصة. وكان يؤسس لقيام الرق على أساس ما تقدمه الطبيعة للإنسان، فهناك مجموعة من الناس منحتهم الطبيعة ما يؤهلهم لأن يكونوا من الأسياد، وهناك من لم تمنحهم الطبيعة مزايا بحيث أصبحوا عبيدا، وبهذا يعتبر الرق ظاهرة طبيعية.

‌د. نظرية القيمة:ميز أرسطو بين نوعين من القيمة لكل سلعة وهما 2[4]:

-القيمة الاستعمالية: وهي مقدار المنفعة أو الإشباع التي تقدمها السلعة للفرد عند استعمالها.

-القيمة التبادلية: وتظهر في السوق، وهي ما يتم الحصول عليه من سلع في السوق نتيجة مبادلة سلعة معينة بها، أي مقدرة مبادلة سلعة بسلعة أخرى.

وهذا التمييز في القيمة يعد الأساس الذي انطلقت منه النظرية الحديثة للقيمة فيما بعد، والتي ترى أن القيمة التبادلية للسلعة تتوقف على قيمتها الاستعمالية، أي أن ثمن السلعة يتوقف على المنفعة أو الإشباع الذي يحصل عليه المشتري من استعمالها 3[5].

‌ه. الاحتكار: عارض أرسطو الاحتكار واعتبره مجحفا وغير عادل، وقد عرفه على أنه "انفراد بائع واحد ببيع سلعة في السوق"(الأشوح، 2010، صفحة 48)، وكان يرى أن الاحتكار يمكّن البائع من فرض أسعار معينة تسمح له بتحقيق أرباح أكبر على حساب المستهلكين، وأن هذا غير عادل وغير أخلاقي. ولهذا نادى أرسطو بفكرة الثمن العادل بالرجوع إلى اعتبارات أخلاقية.

‌و. النقود:أرجع أرسطو سبب ظهور النقود إلى عيوب المقايضة وصعوبتها، وقد اهتم بالنقود ودرس وظائفها، حيث أوضح أن لها ثلاث وظائف رئيسية هي:

-وسيلة للمبادلة: رأى أرسطو أن الصعوبات التي واجهت عملية المقايضة أدت إلى استخدام المعادن الثمينة (والتي تعبر عن نشأة النقود) كوسيط للمبادلة. وكان يرى أن المعيار الذي يجعل الأفراد يقبلون بالنقود كأداة للتبادل هو كونها مصنوعة من معادل ثمينة (ذهب وفضة).

-مستودع (مخزن) للقيمة:بمعنى أن النقود يمكن أن تستخدم كأداة لحفظ المدخرات، أي كوسيلة للاد 2[4]خار وشراء السلع في المستقبل.

-مقياس للقيمة:أدرك أرسطو أن للنقود وظيفة أخرى للنقود وهي أداة لقياس قيم السلع، أي أن سلعة ما تساوي وحدات معينة من النقد.

‌ز. الفائدة: عارض أرسطو بشدة الإقراض بفائدة واعتبره ربا من منظور أخلاقي، وكان يعتبر أن النقود عقيمة ولا تولد ناتجا أو دخلا، فلا مبرر لدفع الفائدة عنها، وأنها وجدت بطبيعتها لأداء وظائف معينة، وليس من الطبيعي أن تستخدم من أجل الحصول على الثروة أو أداء وظائف أخرى، لأن ذلك يعتبر خروجا عن الغرض الأصلي من وجود النقد وهو تسهيل التبادل.